عندما يسرق الصغار.. كيف نعالج الأمر؟
تُعد السرقة من السلوكيات غير المقبولة اجتماعيًا وأخلاقيًا في جميع الثقافات والمجتمعات. وعندما يُقدِم الأطفال على هذا السلوك، فإن الصدمة التي تعتري الأهل عادة ما تكون شديدة، إذ تتعارض مع القيم والمبادئ التي يسعون لغرسها في نفوس أبنائهم. غير أن سرقة الأطفال تختلف جوهريًا عن سرقة البالغين، لأنها غالبًا لا ترتبط بنفس الدوافع الإجرامية، بل تنبع من دوافع نفسية، أو اجتماعية، أو تطورية. من هنا تنبع ضرورة التمييز بين الفعل كجريمة وبين فهم أسبابه كعرض لسلوك يحتاج إلى المعالجة، لا إلى العقاب وحده.
الفهم النفسي لسلوك السرقة لدى الأطفال
لفهم دوافع السرقة عند الصغار، ينبغي أولاً إدراك أن الطفل في سنواته الأولى لا يملك إدراكًا متكاملًا لمعنى “الملكية”. فالطفل الذي يأخذ شيئًا لا يخصه قد لا يرى في ذلك سلوكًا خاطئًا، بل يلبي رغبة آنية أو يقلد سلوكًا ما رآه. في مراحل لاحقة، وتحديدًا بعد سن السابعة، يبدأ الطفل في استيعاب فكرة الملكية والحقوق، وحين تستمر السرقة بعد هذا العمر، تصبح مؤشرًا لسلوك غير سوي يحتاج إلى تدخل تربوي أو نفسي.
تتنوع الدوافع النفسية للسرقة عند الأطفال، فمنهم من يسرق بدافع الشعور بالنقص أو الحرمان، ومنهم من يفعلها للفت الانتباه أو التعبير عن الغضب أو القلق أو حتى للتمرد على السلطة الأبوية. بعض الأطفال قد يسرق بدافع التقليد، خاصة إذا رأى الكبار يقومون بأفعال غير نزيهة أو إذا لم يتم التأكيد على القيم الأخلاقية في بيئته.
الأسباب الاجتماعية والتربوية لسلوك السرقة
يمكن رصد مجموعة من العوامل الاجتماعية والتربوية التي تسهم في انحراف سلوك الأطفال نحو السرقة:
-
الحرمان المادي أو العاطفي: الأطفال الذين يعانون من فقر مادي أو من حرمان من الاهتمام والحنان الأبوي قد يلجؤون إلى السرقة كوسيلة للحصول على ما ينقصهم.
-
التمييز بين الأبناء: عندما يشعر الطفل بعدم العدالة في المعاملة مقارنة بإخوته، قد يحاول تعويض هذا الشعور عبر أخذ ما لا يُعطى له.
-
البيئة المدرسية الضاغطة: قد يشعر الطفل بحاجة إلى التفاخر أمام أقرانه بمقتنيات لا يملكها، مما يدفعه للسرقة من البيت أو من المدرسة.
-
ضعف التنشئة الدينية أو الأخلاقية: غياب التوجيه القيمي يترك فراغًا في الضمير الأخلاقي، فينمو الطفل من دون بوصلة داخلية تمنعه من اقتراف الخطأ.
-
التقليد والمحاكاة: يتأثر الأطفال بما يرونه، سواء في الواقع أو في المحتوى الإعلامي، وقد يقلدون شخصيات تسرق في الأفلام أو الألعاب الإلكترونية.
-
ردود فعل الأسرة: العنف أو التهاون كلاهما يؤدي إلى تثبيت السلوك؛ فالعقاب المفرط قد يولد عنادًا وخوفًا، والتساهل قد يشجع على التكرار.
الخصائص العمرية ودورها في تفسير السلوك
يتوجب التفريق بين السرقة لدى الأطفال حسب الفئة العمرية، فالأطفال في سن ما قبل المدرسة (3–6 سنوات) غالبًا لا يدركون الفرق بين “ملكي” و”ليس ملكي”، وقد يكون الأمر لديهم مجرد رغبة آنية. أما في مرحلة الطفولة الوسطى (7–12 سنة)، يبدأ الطفل في إدراك القواعد الاجتماعية بشكل أوضح، وهنا تُعد السرقة سلوكًا يتطلب تقويمًا مباشرًا، لأنه صار واعيًا بالأفعال ومترتبًا على دوافع مدركة.
في مرحلة المراهقة (13–18 سنة)، قد تأخذ السرقة أبعادًا أكثر تعقيدًا، حيث تكون مرتبطة أحيانًا بالرغبة في التحدي، أو بالإدمان على سلوكيات الانحراف، أو نتيجة ضغط الرفاق، أو الحاجة إلى إثبات الذات. في هذه المرحلة، لا بد من التحليل العميق للسلوك وأسبابه لأنه قد يشير إلى اضطرابات أكبر، مثل اضطراب السلوك أو حتى الشخصية المضادة للمجتمع.
المنهج التربوي السليم في مواجهة السرقة
لكي يتم التعامل مع هذا السلوك بشكل تربوي ناجع، لابد من اعتماد منهج شامل ومتكامل يستند إلى مجموعة من المبادئ الأساسية:
1. التفهم دون تبرير
الخطوة الأولى هي التفهم العاطفي، أي فهم دوافع الطفل دون تبرير السلوك نفسه. لا يعني هذا التهاون أو التغاضي، بل يعني فهم ما دفع الطفل للقيام بالفعل حتى يكون العلاج جذريًا لا ظاهريًا.
2. تجنب العقاب الجسدي أو الإهانة
اللجوء إلى الضرب أو الإذلال يخلق آثارًا نفسية سلبية عميقة، ويزيد من الشعور بالعدوانية أو الخوف أو الكذب لدى الطفل. من الأفضل أن يتم استخدام العقاب التربوي مثل حرمان مؤقت من امتيازات أو توجيه حازم مع شرح العواقب الأخلاقية.
3. الاعتراف وتحمل المسؤولية
يُشجَّع الطفل على الاعتراف بالخطأ وإعادة ما سُرق، وتقديم اعتذار صادق للطرف المتضرر. هذا يُعزز الإحساس بالمسؤولية، وينمِّي لدى الطفل الضمير الأخلاقي.
4. تعزيز القيم الأخلاقية
ينبغي على الأسرة والمدرسة العمل بشكل مستمر على تعزيز القيم الأخلاقية كالأمانة والصدق، سواء عبر القصص، أو الأنشطة التربوية، أو من خلال النموذج العملي المتمثل في سلوك الكبار.
5. مراقبة الأصدقاء ومصادر التأثير
يتأثر الطفل بشكل كبير بأصدقائه ووسائل الإعلام والألعاب. لذلك من المهم أن تكون هناك رقابة مرنة ودائمة على هذه العوامل، وأن تتم مناقشة السلوكيات السلبية التي يلاحظها الطفل أو يمر بها.
6. إشباع الحاجات النفسية والمادية
قد تكون السرقة مجرد تعبير عن نقص في الحب أو في الشعور بالقبول أو في الحاجات الأساسية. عندما يُشبِع الوالدان هذه الاحتياجات، يقل احتمال لجوء الطفل لأساليب غير صحيحة لتلبية رغباته.
7. التشجيع على السلوك الإيجابي
عندما يظهر الطفل سلوكًا جيدًا، لا بد من مكافأته بالثناء أو بعلامات التقدير المناسبة لعمره. التعزيز الإيجابي من أقوى أدوات تعديل السلوك.
الجدول التالي يوضح مراحل التعامل مع الطفل السارق حسب الفئة العمرية
| الفئة العمرية | خصائص السلوك | استراتيجية التعامل |
|---|---|---|
| 3–6 سنوات | لا يميز بين الملكية والغير | التوجيه اللطيف والشرح المتكرر |
| 7–12 سنوات | بداية استيعاب القيم | حوار، إصلاح السلوك، عقوبات تربوية خفيفة |
| 13–18 سنوات | وعي كامل بالدوافع | تقويم سلوكي عميق، تدخل نفسي عند الحاجة |
متى نلجأ إلى المختص النفسي؟
عندما يتكرر سلوك السرقة رغم كل محاولات التوجيه والتربية، أو عندما يكون مصحوبًا بسلوكيات أخرى مقلقة كالعنف، الكذب المزمن، الإدمان على الألعاب الخطيرة، أو الانطواء، هنا يصبح التدخل المهني ضروريًا. المعالج النفسي أو المرشد التربوي يستطيع إجراء تقييم دقيق للدوافع الكامنة، ويقترح خطة علاج مناسبة بناء على شخصية الطفل وسياقه الأسري والاجتماعي.
وقاية الطفل من السلوك المنحرف
الوقاية دائمًا خير من العلاج، وتبدأ الوقاية منذ السنوات الأولى لتربية الطفل، عبر نموذج أبوي قائم على الصدق، والتفاعل الإيجابي، والحزم العادل. تربية الأطفال على القيم لا تكون من خلال الأوامر فقط، بل عبر الأفعال اليومية، والقدوة التي يعيشونها مع آبائهم وأمهاتهم.
كما أن تعزيز مفهوم “الملكية” لدى الطفل، وتدريبه على احترام ممتلكات الآخرين، ومشاركته في قرارات بسيطة تتعلق بما يملك، كلها وسائل مهمة لتشكيل شخصية متوازنة.
إن الطفل الذي يشعر بالأمان والانتماء، ويتلقى الحب والدعم في بيئته الأسرية، ويتعلم كيف يُلبِّي حاجاته بطرق سليمة، هو أقل عرضة للجوء إلى السرقة أو إلى أي سلوك منحرف آخر.
المراجع
-
د. عبد الكريم بكار، التربية الأخلاقية – رؤية واقعية عصرية، دار السلام، 2018.
-
د. مصطفى أبو سعد، فهم نفسية الطفل وتعديل السلوك، مركز قرطبة للتدريب، 2020.
